الصفحة الرئيسية  أخبار وطنية

أخبار وطنية أحمد المناعي يتحدّث عن جذور مصلحة «الاستعلامات» لحركة النهضة: «الطاهر بوبحري» نموذجاً

نشر في  21 سبتمبر 2019  (21:25)

بقلم: أحمد المناعي

رئيس المعهد التونسي للعلاقات الدولية

 

ملاحظة: مصلحة الاستعلامات التابعة لحركة النهضة موضوع هذه الورقة هي فرع من التنظيم السري أو الجهاز الخاص للحركة والذي تأسس في نهاية سبعينات القرن الماضي وبرز بمحاولته الانقلابية المعروفة في 8 نوفمبر 1987.

 خلال وإثر الانتخابات التشريعية لشهر أفريل 1989 بتونس تعرّفت على الكثير من أعضاء حركة النهضة في الساحل واشتهرت في أوساطهم نظرا لدوري البارز في الحملة الانتخابية التي قدتها على رأس القائمة المستقلة لدائرة المنستير – رغم أني لم أكن رئيسها الرسمي – والتي استمرّت على امتداد أسبوعين وقد حصلت قائمتنا على نسبة 22 % من أصوات الناخبين -حوالي 21000 صوتا-اعتبرتهم النهضة ملكها الخاص لمجرد اعلانها مساندتنا.

وكان من بين الذين تعرفت عليهم شخص يدعى محمّد الشملي وكان مشهورا كتاجر اقمشة وتجهيزات العرائس وربما كان الاسم الأكبر والأشهر في اختصاصه بمدينة سوسة وبكامل جهة الساحل. لم أكن أعرف وقتها علاقته بعمليات التفجير التي وقعت في بعض الفنادق بمدينتي سوسة والمنستير خلال الليلة الفاصلة بين 02 و03 أوت 1987، ولا أيضا موقعه صلب هياكل النهضة فلم أكن فضوليا في يوم من الأيام واكتفيت بما يفصح به الناس عن أنفسهم في لقاء أول.

دعاني السيّد محمّد الشملي ذات يوم إلى شرب فنجان قهوة في مقصورته الخاصة داخل محله التجاري حيث سبقني إليه المرحوم صلاح الدين عبد الله (السفير التونسي المتقاعد) الذي ينحدر من مدينة قصر هلال مسقط رأس السيّد محمّد الشملي.

كنت أعرف السفير السابق بالشهرة وأحمل عنه انطباعا طيبا وتجاذبنا أطراف الحديث حول مصر التي عمل فيها طويلا… وبينما كان محمّد الشملي يحضر القهوة في ركن من المقصورة ويتردّد بين المطبخ والمكتب لجلب القهوة تارة والماء تارة أخرى، قال لي: «إنّ الجماعة تعقد اجتماعا هذا المساء، ما رأيك سيد احمد في إحداث مصلحة استعلامات داخل الحركة؟» فأجبته مندهشا: «(….) الله يا أخّي هل أنتم دولة حتى تحدثوا مصلحة استعلامات؟» وأضفت قائلا: «لكن الحركة تستطيع ان تشجع على ميلاد حزب سياسي يتشكل من القائمات المستقلة التي برزت في تلك الفترة».

وبعد مدة التقيت ثانية بالسيّد محمّد الشملي فقال لي: «(….) إن الجماعة لم توافق على مقترحك». ولم أسأله عن مشروع مصلحة الاستعلامات لاعتقادي أنّ الأمر كان مجرّد فكرة طائشة لا تستحق الطرحغير أنني كثيرا ما تساءلت: لماذا يسألني الرجل عن أمر خطير كهذا وأنا غريب عن حركته؟ أهو نتيجة دفاعي عن حقها في الوجود القانوني حينئذ الذي كان وليد رؤية شاملة لمستقبل المشهد السياسي في تونس وحتى في المغرب العربي الكبير بأسره؟

ومردّ نظرتي تلك أني عملت في الجزائر طيلة السبعينات وفي المغرب مطلع الثمانينات واتضح لي من معاينة شخصية بهذين البلدين الشقيقين المجاورين لتونس أنّ الحركات الإسلامية تمتد وتتوسع قواعدها الشعبية بسرعة في العالم الإسلامي مشرقا ومغربا وأنه من الضروري الاعتراف بها وتقنين وجودها حتى يمكن مراقبتها اجتماعيا وسياسيا وفكريا… وفيما يخصّ سؤال السيّد محمّد الشملي فقد انتهيت إلى أنّ الرجل كان يعتقد أنّ العلاقة الشخصية مع رئيس الحركة تعني أني واحد منهم.

وفي شهر ماي 1991 بدأت مرحلة جديدة في حياتي وهي مرحلة المنفى القسري القاسية والمؤلمة لي ولزوجتي وأطفالي… وهي أيضا مرحلة تعلمت فيها الشيء الكثير عن معادن الرجال وتعرفت فيها على أشخاص ما كان لي أن أعرفهم في غير تلك الظروف فاكتشفت الوجه الحقيقيّ لأشخاص آخرين وتعرفت بالخصوص على حجم صناعة الكذب والتلفيق والتدليس والمغالطة لدى هذه الحركة وكانت صدمتي قوية.

  • الطاهر بوبحري

كان من بين من تعرفت عليهم شخصا يدعى الطاهر بوبحري. لا أذكر أني التقيته به أكثر من مرة واحدة. كان قد دخل التراب الفرنسي في مارس 1992 وحصل على اللجوء السياسي في نفس السنة وتمكن بذلك من وثيقة سفر فرنسية تسمح له بالسفر والتنقل بحرية إلى كل بلدان العالم ما عدا تونسوحدث أن اعتقل الرجل في النمسا في شهر نوفمبر 1994 حيث كان محكوما عليه بالمؤبد في تونس في أوت 1992. وكان مطلوبا من البوليس الدولي – رقم الملف الأحمر: 28885 – 91/ ورقم المراقبة: A-186/5-1992 وإذن دولي بالإيقاف رقم: – 1-3391 – مؤرّخ في 7 مارس 1991 .

  • ماذا كان يعمل في النمسا؟

لم يكن الطاهر بوبحري سائحا في النمسا وإنما في مهمة. فمعلوم أنّ النمسا كانت البلد الأوروبي الوحيد آنذاك الذي يقبل التونسيّين بدون تأشيرة وهو ما سمح للكثير من الهاربين منهم بدخولها ومنها إلى بلدان أخرى. وكان بوبحري المنسّق لهذه الشبكة فكان يستقبلهم في فينا ومنها إلى ألمانيا وفرنسا خاصة. وهي عمليات تفطّن إليها الأمن النمساوي والتونسي وساعد على تفكيكها سفير تونس بالنمسا، الجنرال الحبيب عمّار.

وكان عليّ حينئذ كرئيس لجمعية تونسية للدفاع عن الحريات أن أتحرك لفائدته فسألت بعض رفاقه عن شخصيته وموقعه في الحركة…  وراسلته وهو في السجن وأخبرته بالتحركات والاتصالات التي قمت بها لفائدته على غرار مراسلاتي لكل من ديوان اللاجئين بباريس ووزارة الخارجية الفرنسية لكونها هي حاميته وإلى وزير العدل النمساوي وإلى كثير من المنظمات الحقوقية… للفت نظرها حول قضيته.

وما أعجبني في رده على الرسالة التي بعثت بها إليه في سجنه قصد إعلامه بالتحركات التي قمت بها من أجله والتي بدأتها – لا أدري ان كنت تعرفني؟  …فجاء رده في رسالة من سجن سالسبورغ بتاريخ 25 -10-1994كالآتي: «(…)  سأعتب عليكم أخيرا لملاحظتكم أنني ربما كنت لا أعرفك. ان تونس حريصة عليّ بسبب أني أعرف كل الناس

  • من هو الطاهر بوبحري؟

ينحدر السيّد الطاهر بوبحري من غمراسن بالجنوب التونسي وهو متخرج من معهد التغذية بتونس. ولم يشتغل باختصاصه وثمة من يقول بأنه اشتغل قبل التحاقه بالإدارة المركزية للنهضة في معمل الياغورت بمدنين. وإثر ذلك تفرغ للعمل بإدارة حركة النهضة. ولم يكن الطاهر من أعضاء المكتب التنفيذي للحركة ولا حتى بمجلس الشورى، بل كان متفرغا ضمن فريق المكتب المركزي للحركة قبل تكليفه سنة 1990 بمهمة الاستعلامات على الرغم من أنه لا يملك أيّ تكوين عسكري أو أمني بتاتا. فهو كما علمت من الهواة ليس إلاّ ولكن بعقليّة الفضول أي «التنسنيس» بالعامية التونسية.

وقد كلفه بالاستعلامات رئيس جهاز العمل الخاص السيّد محمّد شمّام. ويبدو أن تأسيس الجهاز الاستعلاماتي لم يكن بهدف اختراق مصالح وأجهزة الدولة والحزب الدستوري الحاكم، وإنما بهدف تأمين الحركة من اختراق محتمل من قبل مدير الأمن العمومي ثمّ وزير الداخلية وأخيرا رئيس الوزراء، الجنرال زين العابدين بن علي. وهو ما يعني الرغبة الجامحة للحركة في اكتشاف النظام وكل المتعاونين من خلال شبكة استعلاماتية تجنبا لضربات محتملة منه تجاهها.

ويجدر التذكير أنّ الجهاز الاستعلاماتي للحركة بدأ يشتغل منذ سنة 1986 تحت إشراف المرحوم صالح كركر لكنه بقي شبه جامد لعدة اعتبارات لينقطع عمله كليا إثر دخول الحركة في مواجهة مباشرة مع النظام البورقيبي. لكنّ محمّد شمّام أعاد إحيائه ثانية سنة 1990 لكنه سقط في يد النظام بعد حوالي 10 أشهر أي في شهر نوفمبر من نفس السنة. ويرجح أنّ عملية الاختراق من طرف النظام قد تمّت بخيانة من بعض أفراد الحركة أنفسهم.

وما يهمّني ذكره في كل هذا أنّ ما طلبه منّي السيّد محمّد الشملي في سنة 1989 واستغربت من مجرد التفكير فيه قد تمّ تكوينه فعلا خلال الاجتماع المذكور أنفا وقد تولى أمره الطاهر بوبحري لكنه لم يعمّر طويلا لينهار مع بقية الأجهزة النهضوية إثر اكتشاف المحاولة الانقلابية الثانية للحركة في سنة 1991.

وفي الخارج وتحديدا في فرنسا اشتغلت أجهزة الاستعلامات النهضوية بالتجسّس على أبناء الحركة: من مع الشيخ ومن ضده؟ من يئس وانسحب بهدوء ومن بقي على ولائه وشيء من النشاط؟ يضاف إلى ذلك غوصها في أدقّ خصوصيات الأشخاص المنتمين للحركة. عندما رجع الطاهر بوبحري إلى تونس في سنة 2011 كان في استقباله بمطار تونس قرطاج الدولي الشيخ راشد الغنوشي رفقة جمع من كبار المسؤولين في حركة النهضة وهو ما يعني ذلك أنّ الرجل كان وفيا لشيخه أولا وأن مقامه عنده عظيم وأن مستقبله مضمون!

وتأكيدا لذلك عُيّن بوبحري مستشارا شخصيّا لرئيس الحكومة المؤقتة عليّ العريض ثمّ مستشارا لوزير الداخلية……  غير أنّ وزير الداخلية الأستاذ لطفي بن جدّو قد أعفاه من مهامه في 2 أوت 2013 على إثر الندوة الصحفية التي عقدها الكاتب العام لنقابة الأمن الجمهوري السيد وليد زرّوق وكشف فيها عن قائمة اسمية بستة عشر شخصيّة من الأمن الموازي يتقدمهم السيّد الطاهر بوبحري كواحد من عناصر النهضة المندسين في أجهزة وزارة الداخلية.

كلمة أخيرة عن وفاء الرجل لأخلاق جماعته حيث أنه لم يشكرني يوما على الخدمات التي قدمتها له أثناء قبوعه بالسجن في فينا ولا حتى واساني فيما تعرضت له من اعتداءات من قبل نظام بن علي في سنتي 1996 و 1997 رغم كوني كنت أقطن بعمارة محاذية لعمارته في مدينة فونتني بين 1997 و 2001 .